هدية وداد شختورة الموازنة بين وجوه الحياة
في أعقاب آخرين كثر، سابقين وآتين، وصلت وداد شختورة، ختام “نشيدها”، أو عمرها وحياتها، بمطلع النشيد، على قول محمد مهدي الجواهري. ولم يكن نشيدها “نشيد الخلود”، بل حداء انتظار، شأن حياتنا كلنا، على تشكك في “حداء” ويقين من “انتظار”. ولا تطعن غلبة الانتظار على الغناء أو النشيد في حياة واحدنا النثرية، ولا في مرتبتها ومعانيها. فالنثر، على رغم معنى البعثرة والاقتصار على جزئية من غير ضرورة ولا إلهام ولا تعلّق بمكانة شريفة وعالية، النثر هذا قد ينم بدأب وتواضع وقصد لا تصدح في “ألحان” الصرصار ووصلاته ربما، ولكنها ليست تجهم النملة وجدَّها الأبكمين، على ما تروي الحكاية نفسها.
ووداد شختورة – الرفيقة والصديقة القديمة يوم كانت الصداقة تترتب على “الرفاقية” (الحزبية)، وتولد هذه من تلك وتموتان معاً، ظاهراً وربما حقيقة – كائن هجين ومولَّد يكذب قسمة الحكاية. وهذه قسمة حاكتها الحكاية، حياكة ومحاكاة معاً وجميعاً، ويعرفها ويقلِّبها ويستعملها من سمع الحكاية أو قرأها ومن لم يسمع ولم يقرأ. فهي من نثر الحياة والسعي، ومن أدب اليوم والليلة. ولعل ألصق ما كان لصيقاً بوداد، وكانت هي لصيقة به، هو هذا الأدب، من غير حمل الكلمة أو اللفظة على معنى جسيم أو مبجل.
ومطلع وداد شختورة الذي يرد إليه الختام ليس مطلعاً إلا فيما يعود الى الرفيق والصديق القديم والمتذكر أو الذاكر اليوم، غداة قراءة ورقة النعي الفاحمة الحروف على ورق مستطيل وناصع البياض لُصق على جدار خشن الطرش (وليس الطلاء) يستقبل الداخل الى المبنى الذي أقيم به، وأجَّر “التجمع النسائي الديموقراطي اللبناني”، وهو “تجمع” وداد، شقة في طبقته الأولى منذ سنوات قليلة. فبعد أعوام تُعد بالعشرات أو العقود، من منتصف الستينات، أقام جزء أو وجه من وداد، يتصل بعمل “تنظيمي” أو رفاقي، هو “التجمع”، غير بعيد من رواحي ومجيئي. ولم تعد عليَّ الإجارة القريبة والمفاجئة بلقاء وداد شختورة، ولا بتحية. والنظرة التي يخيل إلي اليوم اننا تبادلناها، هي وأنا، هي في دخولها باب المبنى المشترك الأرضي وأنا في خروجي منه، كانت نظرة متأخرة ومستوقَفة، ولا يثبت الرائي من رأى ويتعرفه، على شك وتردد، إلا بعد انقضاء رؤيا العين الحسية وفوتها. فشأن الواحد ما قال فيه الشاعر التغلبي الذي قضى الخليفة الراشد الثاني في قومه، وهم قوم وداد من بعد، ألا يغمسوا أولادهم في الماء (كناية عن عمادتهم)، “كذبتك عينك أم رأيت بواسط/ غَلَس الظلام من الرباب خيالا”.
والحق أن عيني لم تكذبني، ورأيت رأي العين وداد شختورة، قبل سنة وبعض السنة ربما، في وضح نهار ظليل مثل نهارات المباني العالية والمحيطة بساحة غدت مرآب سيارات رابضة على الإسفلت، رأيتها وهي تهم بصعود درجات السلم الأولى. ولم تفتني التفاتتها الممسكة والمقيدة بمعرفة لم تكن استيقظت فيّ وأنا أنزل درجات السلم. ولم تستفق إلا بعد مرور الملتفتة، وتركها وراءها سحابة خفيفة من فضول ممتزج بابتسامة لا تتوجه إلي، ولا إلى “شيء” حاضر آخر، بل الى ظل ضعيف منصرم يحوم لحظة في العينين، ومائهما الملتمع وحدقتيهما البنيتين والسوداوين، ويطوِّف بافترار الفم عن صف أسنان ترك فيها التبغ أثره الداكن. وهذا الظل، على ضعفه وهشاشته وقربه من “الكذب” و”الخيال” المُغلِّسين، هو خيطي الى تعرف وداد شختورة.
وهي في الأثناء، لم يغير الوقت المديد وجهها وقسماته الممتلئة والملساء والشاحبة والحانية، ولا غيَّر مشيتها الثابتة والثقيلة بعض الشيء والمتساوية الخطوات. وألوان ثيابها، المائلة الى الأسود والرمادي، ما عدا القميص الفاتحة الألوان أو البلوزة، هي هي. ويعود هذا الى منتصف الستينات، يوم جمعت مادونا غازي (مجدلاني) رفاقاً أصدقاء، كنت فيهم، الى زميلة مدرِّسة، مثلها هي مادونا مدرسة الرياضيات، تدرِّس في مدارس راهبات خاصة المادة نفسها. وذريعة الجمع وهذا لم يكن ليحتاج الى ذريعة فنحن كنا نتردد بعضنا الى بعض على الطعام والحديث والسينما والنزهة والتعرف والمناسبات العائلية والأعياد كانت “الاتصال” الحزبي والنقابي، أي استمالة ناشطين أو راغبين في “النشاط” الى رأي وموقف يصبغهما إدخالهما في باب “خط سياسي”، مقنَّع بخط نقابي، بصبغة التماسك، ويخرطهما في دائرة واسعة ومعقدة من الحسابات والتوقعات.
وكنا نحن الدعاة و “السياسيين” المفترضين. وكان المدعوون نقابيين سادرين في سبات مهني غافل عن دواعي الأفق الأوسع والأرفع. والمدعوون، شأن الدعاة، كانوا قلة قليلة. ولم نشك كثيراً، أي شككنا قليلاً وفوق القليل أحياناً كثيرة، في أن القلة قرينة على قوة الدعوة ورجحانها في ميزان الفعل الآتي. واللقاء بوداد شختورة آذن، في حسباننا، بمعنى عميق وكبير يتخطى العدد، وهو واحد في اللقاء الأول ببيت مادونا وفي رعايتها المتحفظة. فمن التقنياها كانت امرأة شابة عاملة ورزينة، على نحو ما وصفتها صديقتنا ورفيقتنا وواسطتنا إليها. وهي قادمة، أي “طالعة” من عملها وخبرتها وليس من “قراءاتها”. وهذا بيت من بيوت القصيد الممضة. فنحن، الدعاة، أقلقنا وأمضنا أننا أهل قراءة في المرتبة الأولى. وما شَفَع لنا إيقاننا بأن الأفق الأوسع والأرفع، “ثورة” الضعفاء المباركين والممسوحين وقيامهم على الظالمين وعالمهم، لا يدرك إلا من طريق التعليم و “العلم”، ومن خارج استجابة المصالح المباشرة والانقياد لهديها المضلل والخادع والدائر في دائرة “النظام”، لا يغادرها ولا يكسرها على ما ينبغي. وسبيل “العلم” القراءة والفهم. وهذا دمغنا بدمغة الانفصال ممن كنا نتوق توقاً حاداً وموجعاً الى الولادة منهم، والعودة إليهم، والذوبان فيهم. والجمع بين الانفصال، والصدوع بضرورته اللازمة، وبين التخلل والتقلب في الثنايا العميقة والحارة، كان غايتنا المعظمة، لفظاً وخطابة وسراً. وفي معظم الأوقات غَلَبَنا الاسترسال مع قطب من القطبين، قولاً وعملاً، أو قولاً تارة وعملاً تارة ثانية. وقَرَرْنا على حال مختلطة لم ندر ما هي، ولم نرد أن نعلم ما هي.
وبيت آخر من بيوت القصيد هو أن وداد شختورة مسيحية مارونية وتقيم بالأشرفية أماً عن جدة وأباً عن جد. ولم يكن انقضى عقد تام بعد على “حوادث” 1958 “الطائفية”، وعلى الاقتتال المسيحي الإسلامي. وذهبنا، من غير مناقشة ولا تردد، الى أن إقبال مسيحيين على “العمل” معنا، وكان معظمنا يومها من الشباب المسيحيين، هو امتحان الدعوة و “خطها” الحاسم والأول. فحيث أخفق دعاة العروبة الناصرية، ودعاة البعث (على رغم مسيحية بعض أعلامه)، ينبغي أن ينجح أهل “الماركسية” الأقحاح، على حسب ما عرَّفنا أنفسنا تعريفاً صريحاً لا تخالطه هجنة ولا عورة نسب، فيه. وعلى هذا، فإقبال امرأة شابة عاملة ونقابية ومسيحية ومقيمة بالأشرفية، ولم يسبق أن كانت شيوعية ولا تصدر عن “ثقافة” أو قراءة، إقبالها “علينا” حسبناه برهاناً صادقاً على استقامة ما ندعو إليه. وغضضنا النظر، من غير جهد، عن أن القادمة المدعوة والمستجيبة سبقت استجابتُها دعوة متلعثمة وفي طور الاستواء كلاماً معرباً وبياناً مفهوماً.
ولكن اللقاء بشختورة، على ما سار القول حال تعارفنا ومناقشتنا، بدد التحفظ أو السؤال عن دواعي انضمامها إلينا. فهي حسمت رأيها في اللقاء أو الاجتماع الأول. ورأيها الحاسم والواضح بدا راسخاً في بداهة قوية وثابتة لم نكن، نحن الدعاة، راسخين فيها على هذا المقدار من القوة والثبات. فدخلت الرفيقة الجديدة والمفاجئة في “الدعوة” دخول صاحب النذور أو معلنها سلك الرهبنة الذي عزم على لباس ثوبه. وأظن انها مذ ذاك الى حين وفاتها، على نحو ما “تممت واجباتها الدينية” على قول ورقة النعي الكنسية، أقامت على اعتقادها “الدعوة” السياسية، ولم تنحرف عنه. وفي الأثناء، انقلبت أحوال، ونشبت حروب، وجاء ناس وراحوا، وتغيرت آراء وأفكار وأحكام، واجتمعت جماعات وانفضت، وطعن ناس في العمر…
وليس معنى هذا، على رغم صيغة الجزم المتقدمة واستوائها على سوية متصلة وثابتة، أن وداد شختورة مؤمنة ومتدينة بدين ومعتقد فوق ما هي محازبة و “مناضلة”. وأذكر أنها، في لقائنا ذاك، جلست مستقرة في مقعدها، وملأته مجازاً وحقيقة، واتكأت اتكاءً خفيفاً على ذراعي المقعد، وتوجهت بوجه رقيق الحاشية، يعلو عنقاً دقيقاً، الى من تعاقبوا على الكلام منا. وانتباهها الى المحادث المتكلم، وحين تكلم هي مخاطبها، ربما كان أول ما استوقفني ولفتني في فاتحة اللقاءات. فهي أقبلت بوجه هادئ وقريب من السكون، لولا مودة العينين وبارقة يقظة ممسكة ولطيفة فيهما، واستمعت استماع من سبق له التفكير فيما يسمع، وانتهى الى رأي فيه. ولكنها، على خلافنا، لم ترَ أن الرأي إذا وافق رأياً آخر، على ما ينبغي في اجتماعات المتحزبين، يوجب الاحتفال والتهليل، وعرضهما على مسرح الوجه ونبرة الكلام وإيماء الجسم. والاستفاضة في الاحتجاج، موافقة أو دفعاً، لم يكن من شيمها. وليس هذا حياداً ولا توسطاً. وحين التقيتها مرة، غداة نحو عشرين عاماً على جفائنا وقطيعتنا وخروجي من جماعة أقامت هي على “الانتماء” إليها، وأردت أنا الاحتفال باللقاء غير المتوقع، والترحيب بالصديقة القديمة، أفهمتني النظرة الباردة والجانبية أنني وحدي المحتفي والمرحب.
وفي الأشهر التالية اللقاءات الأولى ظهر أن التحفظ عن العبارة الخطابية والمسرحية المطنبة ليس قرينة اقتصاد في التصديق أو رأي متشكك أو رغبة في رعاية حِدَةٍ (أو حديقة سرية، على استعارة فرنسية).، فالرفيقة الجديدة لم تتأخر مرة دقيقة واحدة عن اجتماع، ولا ترددت في التزام عمل، ولا تبرمت برتابة، ولا تذرعت بشاغل. واحتسبتُ هذا “بطولة”، مسايرة لداعي المبالغة في العبارة، وعلى التقليل احتسبته شجاعة. ودأب بعضنا، في تلك الأيام السعيدة والساكنة، ترديد عنوان فيلم هنغاري أو تشيكي معاصر: “(أعطنا) شجاعة كفافَ يومنا”، على مثال الصلاة التي تخاطب “أبانا الذي في السموات”. فقدامى الدعاة منا كانوا يستحون، في سرهم أو علانيتهم، من فقر مادة “العمل السياسي” التي يخوضون فيها، ومن اقتصار معظمها على الاجتماعات والمناقشات والشروح أو التعليق. وكان يخيم على الاجتماعات، في أحيان كثيرة، يأس يتفاوت قتامه من يوم الى آخر، أو من ساعة الى أخرى في اليوم الواحد. والباعث عليه هو ضآلة رابطتنا بالحوادث السياسية والاجتماعية والثقافية، وهزال انخراطنا فيها قياساً على رغباتنا في المرتبة الأولى، وعلى مزاعمنا في فهمها وتعليلها، في المرتبة الثانية. وتسترت السرية التي ألبسناها “عملنا”، وتشددنا فيها من غير داع أو مسوغ ظاهر، على الضآلة والهزال هذين.
فأهدتنا وداد شختورة سكينتها واطمئناناً ثمينين هما صدى سكينتها واطمئنانها الصامتين والحييين. فلم تحتجَّ لموقف أو رأي في مكانة الرابطة بالحوادث من قيمة “عملنا”، أو محلها من قياس الأثر في الحوادث. فميدان عملها، إذا صحت الاستعارة الحربية، هو التعليم الخاص ومعلموه ونقابتهم ومدارسه وأجوره وساعات عمله ولجانه التحكيمية وعقوده وتعويضات صرفه التعسفي وخطوات صندوق ضمانه الأولى يومذاك. وميدان عملها كان مجرى حياتها وحضن الحياة الدافئ. وصداقاتها كلها عقدتها بزميلات العمل وزملائه، بالأفراد الآحاد وبالأزواج في بيوتهم وأسرهم ومنتزهاتهم وخروجهم وولوجهم، وبالقدامى والجدد والمتوسطين. وتدريسها الرياضيات كان هوى مزدوجاً: هوى التدريس وهوى مادته. فأرادت التعليم فرصة المعلمين الثمينة والكريمة، وعملاً يليق بمزاوليه وتلاميذه وإدارييه. في هذا الوقت سعت المدارس المتكاثرة والمتناسلة، والمنتهزة الإقبال والتدافع على الأبواب، في تقليص تكلفة التعليم من طريق الرواتب الهزيلة والمتقطعة، وحجب التعويضات، والبخل بالتجهيز، ورشوة موظفي وزارتي التربية والعمل ومندوبيهما الى المراقبة والتحكيم. ولابست الإرادة هذه معاملات الرفيقة الصديقة وإيمانها أو معتقدها، على القسمة المعروفة، أو وجهي حياتها المهني العام والخاص. فصرفت الأشهر الأولى من نشاطها الحزبي الى مناقشة صياغة جديدة لنظام نقابة معلمي المدارس الداخلي، وأشهراً أخرى تليتها الى اقتراح برنامج نقابي ومطلبي جديد. ونشر غسان كنفاني في “المحرر”، وكان جاري في السكن، الورقتين.
ولم تقتصر المناقشات الطويلة على الاجتماعات الرسمية الصارمة. فدارت الأحاديث على موضوعات المناقشات في زيارات عائلية كثيرة الى زملاء أصدقاء وأصحاب كانت تقوم بها، وتصطحبني معها. ويخلط المتحدثون الأخبار المازحة والأليمة والمتداعية بالاقتراح أو التنبيه والتذكير، ويتنقلون بين وجوه المشاعر والأحكام ومنازعها من غير تقيد بوجه أو حد. ولعل مصدر سكينة الرفيقة الصديقة واطمئنانها، قلت في نفسي يومها، هو هذا. و “هذا” هو مزاج دقيق بين وجوه الحياة المتفرقة، يحفظ للوجوه هذه انفصالها وحِدَتَها من غير إغفال بعض اتصالها وتشابكها. فلا يدعو تداول الرأي، أو الإعداد لعمل، الى إغفال المودة أو الإشاحة عن متعة المجالسة والمؤاكلة، وعن نكدهما في أحيان أخرى. وللأصدقاء الزملاء هؤلاء حيواتهم المنفصلة والتقليدية الخاصة. ولست أذكر سيرة متمردٍ أو متمردة على الانفصال أو التقليد أو الخصوصية، ولا أذكر تزمتاً ولا غمزاً من “منحرف” أو “منحرفة” (نسبياً) عن الجادة المتعارفة. ولكن اقتساماً مضمراً لإلفة وجوار مأمونين كان يخيم على ناس اللقاءات والزيارات، وربما على حياتهم التي لم أعلم منها إلا القليل. وهم أقاموا بين وجوه الحياة موازنة حالت دون جماح بعضها، وعدوانه على بعضها الآخر، وقسرها كلها على نظر جديد وقَلِق في ترتيبها.
وهذا ما استحال علينا أو على بعضنا وربما على معظمنا. وحملت الرفيقة الصديقة معها الى دائرتنا الضيقة الموازنة العصية التي تتحدر، على الأرجح، من الاعتياد المبكر على رسوم العبارة الاجتماعية عن أفعال وعلاقات ودلالات مشتركة. فخرجت “سياسةً” من غير خروج على دوائر “عالم الحياة” الأخرى، ولا انقطاع من أهل أو اعتقاد أو زملاء أو أصدقاء أو جوار وسكن، على رغم مخالفتها أهل هذه الدوائر على أمور كثيرة أو قليلة. ونظير هذا، نزلت دائرتها الجديدة، وأقامت بها الوقت الذي أقامته، مستبقية رسوم عبارتها التي لبستها، واعتادت لبسها. ولم يدعُها دخولها دائرتها الجديدة الى تبديل سمت أو كلام أو لباس أو مخالطة، وربما زادت رسوخاً في بعض دوائرها من غير أن يضعف رسوخها في الدوائر الأخرى. ولم تخرجها “السياسة” وأهواؤها عن طورها اليومي السائر أو أطوارها. ولم تتجاذبها الشيع والانقسامات، ولم تغرها، على ما أعلم، “الابتكارات” والآفاق الطالعة من وراء الغيوم (أي ما حمله أصحابه على ابتكارات وآفاق).
ولم يكن هذا صمماً ولا حذراً خالصاً. وأحسب أن وداد شختورة صدرت، في رأيها أن اعتقادها هذا، عن إمساك وتربص فلاحيين، هي بنت المدينة والإقامة والتوطن. وأخالها لم تحسب يوماً أن هواها يصلح ميزاناً تزن فيه الحوادث والأفعال والناس، أو أن الهوى يسبق هذه وهؤلاء، أو أن الحياة معلقة في انتظار ظهور أو مجيء ينفخ الحياة الحق في حياة كاذبة. فعلى خلاف هذه المزاعم، أخالها حملت نثر الحياة المتواضعة على ضيافة صادقة وكريمة. ولا يدعو العسر والضيق والقصور والمرض والألم، والموت في آخر المطاف، الى إنكار الضيافة الأولى، أو إنكار كرمها. فلم تخالط الضغينة، فضيلة الحزبيين الثوريين، إلحاحها في طلب الحقوق لمستحقيها، وإيقانها الثابت بهذه الحقوق، على نحو ما لم ترَ أنها سُلبت أو غمطت “حقاً” يعود إليها. وكان هذا من وداد فعل شكر، على ما كانت قالت ربما في لغة إيمان لم أسمعها تتكلمها ولم أسمعها تنكرها. وشكرها، على شاكلة أفعالها الأخرى، تمتمة خافتة تستحي من جهر الفرح المقيم، وترى الجهر إدلالاً لا يليق بـ “السيد”، أصحاب الفرح، كلنا، من عرفت وصادقت ومن لم تعرف.
المصدر: وضاح شرارة، المستقبل – الأحد 27 كانون الأول 2009 – العدد 3522 – نوافذ – صفحة 11
مشاركة التجمّع النسائيّ الديمقراطيّ في لقاءات تنسيقيّة لتعزيز معايير الحماية الآمنة للنساء والفتيات الناجيات من العنف
بدعوة من الهيئة الوطنيّة لشؤون المرأة اللبنانيٌة، شارك التجمّع النسائيّ الديمقراطيّ اللبنا…