‫الرئيسية‬ مقالات تخطّي الزواج المبكر: مسار من القهر إلى الإستقلالية!
مقالات - 21/03/2022

تخطّي الزواج المبكر: مسار من القهر إلى الإستقلالية!

ريتا بولس شهوان

رجل أحلام “جاين” (إسم مستعار) سراب. أمّا هي، بمواصفاتها الجمالية، آية يتمنّاها كل الرجال. كبرت على وقع أنفاس إبنتيها، وهي ليست أكبر منهما بكثير. هربت “جاين” من نزاعات وتشرذم عائلتها الصغرى، بزواج من رجل يكبرها بـ 22 عامًا. كانت آنذاك في الخامسة عشرة من عمرها (مواليد 1988). كانت تعرف أنها ستخوض تجربة الإنجاب، دون أن تحظى بأي ثقافة جنسية، لا على مقاعد الدراسة، ولا عبر حملات توعية مخصّصة لمكافحة الزواج المبكر. تعرّفت على من سيصبح زوجها عبر شقيقتها، بالسرّ. نجحت بالتسرّب من المدرسة، وأن “تذهب خطيفة” رغمًا عن إرادة والدها: كان زوجها قد تقدّم لطلب يدها بعد أسبوعين فقط من تاريخ تعارفهما ولم ينل موافقة أبيها. سرعان ما تشوّهت في نظرها صورة العلاقة الزوجية والرباط الثنائي بالكامل. فقد استدرجها مستغلًا براءتها وجهلها معنى الزواج، لتنتقل معه إلى منزل عائلته، فيما هو راح يغيب، مكمِلًا مغامراته الجنسية والتي بسببها، نقل إلى “جاين” مرضًا جنسياً كلّفها خسارة نصف رحمها. لكنها، رغم كل المصاعب التي واجهتها، والتجارب المرّة التي خاضتها، … انتصرت. لقد خرجت من قعر فشلها، وتخطّت فخ استدراجها إلى زواج أفقدها طفولتها وشبابها وآمالها.

خالت نفسها تهرب من نزاع عائلي، وفقر مدقع، إلّا أنها وقعت أسيرة نزاع أكبر لا يعرف نهاية، تتوالى فيه فصول الضرب والتعنيف الكلامي و تتحوّل بسببه العلاقة الجنسية الى مشهد مقرف، لا يمتّ بصلة إلى الأفلام الرومنسية، بل إلى مسلسل رعب طويل طويل… رغم ذلك، انتصرت. لم تحصل على الطلاق بعد، لكنها غادرت منزل جلّادها، لتستقرّ في منزل آخر، بعد أن بدأت بكسب عيشها من مهنة التزيين التي أتقنتها بفضل تدريبات تلقّتها. ذاكرة مشوّشة، فقدان الثقة بالنفس، طاعة عمياء لرجل غريب بالكاد تعرفه، … بعض المضاعفات التي حملتها معها من هناك… لكنها أصبحت اليوم بحال أفضل بعدما تحرّرت من سطوة سيطرته التي حوّلتها إلى إنسان مقهور مسلوب الإرادة وحتى الوجود. أكثر من عشرة تدريبات في فن التزيين، ودورات مدفوعة “أونلاين”، وعمل مع أهم خبراء التجميل، أعادوا لها شيئًا من رونق طفولتها، وأحيوا أنوثتها المدفونة، أو بالأحرى، بعثوا فيها أنوثة لم تكن قد اكتشفتها بعد، ولا حتى من خلال رواية تحمل إليها طيف الحب ووهم العاطفة.

نائلة، قصة أخرى من دفاتر الزواج المبكر 

نائلة … هي أيضًا علّمها الحرمان كثيرًا، لقّنها دروسًا دامغة تنقل بعضًا من توجيهاتها إلى أولادها. ها هي اليوم تحاول أن تساعدهم لتخطي عائق انخفاض معدّلاتهم المدرسية، ومشاكلهم النفسيّة، وهمومهم المتراكمة ، ومخاوفهم المتمادية. تضع نصب أعينهم الدراسة هدفًا. لكن نائلة لم تجد في صغرها من يلقّنها هكذا دروس، فتزوّجت حين بلغت الـ 16 عامًا منذ 35 عامًا! لم يتمكّن أيّ ما أولادها أن يكمل تعليمه الثانوي، فتحوّلوا إلى عمّال لتصليح السيارات. تعاني نائلة من شعور ثقيل بالذنب جرّاء خيارها البائس، وتبعاته المأساوية على أولادها، هم الذين تربّوا في كنف رجل سكّير، قاسٍ، عنيف. إحساسها بالمرارة والأسى لا يزيله حتى انتصارها على مأساتها. صحيح أنها تمكّنت من استعادة حريتها وإعادة تكوين شيء من استقلاليتها بالعمل في تنظيف المنازل وتربية الأطفال والطبخ…

لم تهرب نائلة إلى الزواج هربًا من النزاعات العائلية كسواها من الفتيات القاصرات. استدرجها رجل بأسلوب منمّق واعدًا إيّاها بحياة أحلى، فأمضت نصف حياتها تعيش تحت الدرج، في غرفة صغيرة ضيّقة، حيث ولد أطفالها وكبروا. لقد ذهب وعد زوجها لها أدراج الرياح، فبات جلّ طموحها أن ينال أولادها قسطًا، ولو قليلًا، من العلم. تواسي نفسها بأنهم كسبوا مهنة، وبأنهم “أوادم”، لا يعاقرون الخمر كوالدهم. وقمّة المأساة أنّ نائلة لم تعرف أبدًا بوجود جهات مساعِدة وداعمة لضحايا الزواج المبكر كالجمعيّات الأهليّة ومراكز وزارة الشؤون الإجتماعية. كل ما تعرفه هو أنّ الزواج المبكر دمّر حياتها وأثّر على حياة أبنائها، رغم أنها تعافوا، إلى حدٍّ ما، من ندوب نشوئهم في وسط الجهل والانحراف ومعاقرة الخمور.

الجمعيّات تغطي تقصير الدولة …. حسب التمويل!

حلم الإنعتاق من زواج ظالم تمّ قبل أوانه، والسعي للنجاة من العنف وتدني مستوى العيش، وتحقيق الإستقلالية، سمات مشتركة بين المرأتين اللتين تباعد بينهما المسافات والسنين، وتجمعهما المصائب والأحلام. أحلام شكّلت بالنسبة إليهما، على الرغم من صعوبة تحقيقها، حافزًا للنهوض، ودافعًا لبلورة فهم أعمق لأمور الدنيا والحياة. ويكثر هذا النوع من المآسي حتى يكاد يوازي عدد الفتيات القاصرات مهما اختلفت ظروف نشأتهن وعيشهن.

تبيّن المعطيات أنّ حلقة التقصير تشمل جهات عديدة منها المعنيّة بالتوعية والتربية والمساعدة الإجتماعية والدعم المادي، إلخ. ولكن، عندما تقع الواقعة، لا بدّ من نجدة الضحايا. من المفترض أن تمسك وزارة الشؤون الإجتماعية بزمام الأمور بدءًا بالإشراف  على صندوق خاص يساعد النساء المعنّفات، لكن هكذا صندوق غير موجود إلّا على مستوى النوايا حصرًا. فما كان من الجمعيّات النسوية إلّا أن تحمل قضية حقوق النساء والفتيات القاصرات، وتسعى لتغطية تقصير الدولة. بعضها يتكفّل بتعيين محام للمرأة المعنفة، ودفع تكاليف المحكمة. لكن المحاكمات في لبنان طويلة … ما يزيد على المرأة والفتاة عبئًا على عبء.

لقد أطلق “التجمّع النسائي الديمقراطي” حملة لمكافحة الزواج المبكر طوال 16 يومًا، بعنوان “مش وقتها تأجّلوا القانون”. لا تقتصر مساعي التوعية على فترة الحملة، بل تندرج في مسار سنويّ طويل تتعدّد فيه حملات التوعية، ومنها الحملات التي تستهدف النساء والفتيات. كما تتمّ الإضاءة، بشكل دوري، على العنف القائم على النوع الإجتماعي والقوانين المرتبطة به، لتصل جلسات التوعية إلى المدارس. كما يقدّم المجلس جلسات دعم نفسي وقانوني تؤمّنه مساعدة إجتماعية بسريّة تامة، وبشكل مجاني، لكل الفتيات والنساء اللواتي يتعرّضن للعنف سواء عبر تزويج مبكر أو عنف مبني على النوع الإجتماعي، إضافةً الى توفر خط ساخن.

وإن أرادت الطفلة المعنّفة أو المزوَّجة، الحصول على حماية، يتمّ، وفق جمعيّة “أبعاد”، التواصل معها عبر مندوبة الأحداث التي توصي بنقل القاصر إلى مركز إيواء تابع للجمعيّة. إنّما هذا المركز هو مكان سرّي يؤمّن الحماية للقاصر التي تدخل إليه وتخرج منه بناءً لقرار قضائي. تُمنع النساء والفتيات من حمل هاتف كي لا يتمكّن المعنِّف من تعقبهن وملاحقتهن. كما تخضع النساء والفتيات إلى دورات مهنية تساعدهن على الحصول على عمل عند مغادرتهن المركز.

قبل بلوغ مرحلة “رصاصة الرحمة”، تمدّ الجمعيّات يد المساعدة للطفلات وهنّ على مقاعد الدراسة. تخبر مديرة مشروع مكافحة تزويج الطفلات في “الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضدّ المراة” ومديرة منظمة “أنت الحياة” غنوة شندر أنّ التدريب المخصَّص للطفلات يضيء على الإشكالية من الناحيتين الإجتماعية والقانونية مع أخصّائية إجتماعية تشرح، بالتفصيل، مخاطر التزويج المبكر وآثاره السلبية. وتستعين بمعالِجة نفسيّة للتوعية على المخاطر النفسيّة، مع مرافقة محاميين. إستهداف الأسرة وتحديدًا الأب والأم يعيد بلورة الموروثات الإجتماعية بأسلوب علمي مبسّط يساعد على استيعاب تبعات العنف والزواج المبكر، واحتمالات تعرّض الفتاة لعنف من زوجها، كما للعزل والتسرّب المدرسي وأمراض جسديّة، علمًا أنّ هناك رفضًا لتغيير الذهنية أحيانًا، لذا تكثِّف الجمعيّة نشاطها وتلجأ إلى المؤثِّرين في المحيط، بالتشبيك معهم، للوصول إلى أكبر عدد من المستفيدات.

غياب القانون سبب استمرار انتشار الظاهرة

سبق أن قدّم “التجمّع النسائي الديمقراطي” مشروع قانون إلى مجلس النواب عام 2017 لتحديد سنّ الزواج. بات هذا القانون لدى لجنة الإدارة والعدل، وتمّت مناقشته ثلاث مرّات، لكن لم يحدّد بعد موعد لإعادة مناقشته للبتّ به، فيما يقود التجمّع حملات مناصرة لهذا القانون.. وليس التجمّع الجهة الوحيدة التي تلاحق الأمر قانونيًا، فجمعيّات أخرى مثل “الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضدّ المرأة”، تعمل في السياق عينه. وتعتبر غنوة شندر أنّ التأخر في إقرار القوانين هو ما أدّى إلى تجذر ظاهرة تزويج الطفلات، في ظل غياب قانون لتوحيد سنّ الزواج الذي يختلف بين طائفة وأخرى. لا تحصر شندر الأمر بغياب القانون فقط، بل توجد بنظرها عوامل أخرى مؤثّرة للغاية ومنها، الموروثات والأعراف الإجتماعية والثقافية المرتبطة بالفكر الذكوري، التي تعزّز جميعها التزويج المبكر، إضافةً لتردّي الأحوال الإقتصادية التي حوّلت الزواج المبكر إلى حلٍّ ومخرج لتخفيف، ولو عبء فرد واحد، عن كاهل العائلة. وتضيء شندر أيضًا على العوامل السياسية والنزاعات التي تزعزع الإستقرار الإجتماعي ممّا يفاقم انتشار الظاهرة كما الحال عليه خلال الأحداث اللبنانية وبفعل النزوح السوري.

تعتبر رئيسة “جمعيّة عدل بلا حدود” – وهي جمعيّة حقوقيّة – بريجيت شيليبيان أنّ “منظومة التخلّص من النساء يحدّها القانون”. وتعمل هذه الجمعيّة، وفق توضيحات شيليبيان، على تأمين استشارات قانونية على اعتبار أنّ التعرّف إلى القوانين والحقوق يؤمّن نوعًا من الوقاية من مخاطر العنف والزواج المبكر. وتشدّد على ضرورة نشر الوعي من المخاطر التي تهدّد الفتيات كالتعرّض للعنف أو الوقوع ضحية إتجار بالأشخاص في إطار التزويج المبكر. وتقدّم الجمعيّة طلب حماية أو شكوى لأي فتاة مستهدَفة، وتتابع ملفها أمام محاكم الأحوال الشخصيّة. وتضيف شيليبيان أنه، بعد تعديل قانون العنف الأسري، يمكن للفتاة أن تطلب الحماية دون وليّ أمر، وتنتقل إلى مركز إيواء، مشيرةً إلى أنّ القاصر يمكنها أن تحصل على طلاق بمجرّد أنه تمّ تزويجها وهي دون السنّ القانونية.

حتى الساعة، لم يُقرّ قانون مدني يوحّد سنّ الزواج في لبنان، لأنّ السلطة التشريعية تعتبر أنّ سنّ الزواج يدخل ضمن الشؤون التشريعية الخاصة بالطوائف، أي أنّ المرجعيات الطائفية وحدها هي من ترفع سنّ الزواج، حسبما تفيد مديرة “مركز سبوتلايت لحقوق الإنسان” عتيبة مرعبي. ويشير محامي “الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضدّ المراة” و”منظمة أنت الحياة” أمين بشير إلى أنّه جرى العمل على دراسة مستندة إلى الدستور، وخصوصًا المادة 9 منه، لطرح  مسألة “الإنتظام العام” الذي يؤمّن الحماية لكل شرائح المجتمع، ويقضي بعدم التعدّي على أيّ حقّ من حقوق الإنسان، فيُمنع بذلك أيّ انتهاك لكرامة الإنسان ويُعمّم الأمر على جميع الطوائف. وفي هذا السياق، يعرض بشير إلى قانون التزويج المبكر باعتباره يضمن الحقّ في الحياة والصحة، مع الأخذ بالاعتبار الاتفاقيات الدولية لمكافحة كل أشكال التمييز ضدّ المراة وحقوق الطفل.

ترميم حياة طفلة؟

وردة لم تتفتح. لم تنضج فكريًا.لا قدرة لها على المواجهة، ولا على الدفاع عن نفسها، أو على اتخاذ قرارات عن وعي ودراية، حسبما تقول الطبيبة النفسية كارولين سكّر التي تشدّد على مصطلح “ضحية” في وصف الطفلات اللواتي يتعرّضن للزواج المبكر. وتشير سكّر إلى أهمية وعي هذه الإنسانة التي تزوّجت عن عمر مبكر لنفسها، ومدى اعتبار نفسها بأنها ضحية أو مظلومة، إذ أنّ معيار تقييم حالها هو اعتبارات هذه المرأة التي لم تتلقّ توعية، أو تمّ الضغط عليها وتحمسيها على فكرة لا تدرك أبعادها وعواقبها، فأخذت قرارات متهوّرة. وتضيف سكّر بأنّ طلب المساعدة من جمعيّة أو من أي طرف آخر، بعد فشل الزواج، أمر يعتمد على المرأة نفسها، كما تشير إلى وجود حالات تتستّر فيها النساء على وضعهن، مشدّدةً على أنّ السكوت لا يصحح خطأ ولا يزيل مأساةً، فكيف ستعرف جمعية ما بحال المرأة الضحية؟ بالتالي، هي لن تحصل على المساعدة، وستعيش تبعات قرار الزواج كل حياتها. وتدعو سكّر المرأة لأن تتحرّر من ذلّها وصمتها، وتسامح نفسها، لتعود إلى الحياة وترمّم ثقتها بنفسها عبر التعلّم والعمل والنظر إلى المستقبل.

إنّ تمكين النساء ليشاركن بشكل فعّال في المجتمع يساهم في تخطي العقبات التي تفرضها الثقافة الذكورية، ويفسح المجال للحصول على فرص تريدها المرأة لنفسها. فهذا أحد الأساليب الناجعة لتخطي تبعات الزواج المبكر، على حدّ توصيف الدكتور في العلوم الإجتماعية والمدرب سرجون مبيّض. ويدعو مبيّض النساء للإيمان بأنفسهن وبقدراتهن، فينقذن أنفسهنّ من براثن مصير قاتم، فيما يقتصر حينئذ دور الجمعيّات والدولة على مواكبتهن في مسيرتهن نحو … الحق والحرية.

نضع بين أيديكم أرقام الجمعيات التي ذكرناها في مقالنا لمن يودّ الإستفادة من الخدمات التي تقدّمها:

التجمع النسائي الديمقراطي: 71500808

جمعية ابعاد : 81788178

جمعية عدل بلا حدود :   880877 01

 الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضدّ المراة:     662899 01/  624060 06

https://www.al-khabar.co/arabic/ar/2022/03/13/%d8%aa%d8%ae%d8%b7%d9%91%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b2%d9%88%d8%a7%d8%ac-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%a8%d9%83%d8%b1-%d9%85%d8%b3%d8%a7%d8%b1-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%82%d9%87%d8%b1-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%a7/?fbclid=IwAR0D68R8yFR9BntDKqiInoya0HRaF_BVZA6Hyi4snU983wCOg61wlSi2I3o

‫شاهد أيضًا‬

التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني يطلق “الدراسة الوطنية حول تزويج الاطفال والطفلات في لبنان”

تزامناً مع يوم المرأة العالمي وتحت رعاية معالي وزير الشؤون الاجتماعية الدكتور هكتور الحجار…